اللوحة الّتي صادرها موشيه دايان بسبب ألوان العلَم | أرشيف

الفنّان التشكيليّ عصام بدر

 

المصدر: «مجلّة الأقلام».

الكاتب (ة): «مجلّة الأقلام».

زمن النشر: 1 تمّوز (يوليو) 1981.

العنوان الأصليّ: «قصّة اللوحة الّتي صادرها دايان لأنّها ملوّنة بألوان العلم الفلسطينيّ: حوار مع الفنّان عصام بدر».

 


 

هذه الكلمات – الوثيقة – قليل من كثير تمارسه سلطات الاستعمار الصهيونيّ ضدّ الشعب العربيّ الفلسطينيّ. من قبل، حاولت السلطات تزوير فولكلور خاصّ بالاستعمار الصهيونيّ، وكان أنْ شهدت المعارض في أنحاء العالم واحدة من أبشع السرقات، وهي سرقة تراث شعب برمّته بهدف نسبه إلى السطات الغازية.

إنّ مجرم الحرب الأشهر بين جنرالات العدوّ الصهيونيّ موشي دايان لا يطيق رؤية الألوان، حتّى الألوان، لأنّ علم فلسطين يتكوّن منها.  إنّ الحوار اللا مباشر بين الفنّان عصام بدر ودايان فيه رمزيّة كبيرة، ويمكننا تقديمه كرمز لما هو أشمل.

الفنّان يرسم فلسطين المقاومة على هيئة حصان أصيل يكاد يثقب السماء بصهيله، وهو متوثّب محتشد بالرفض إلى أقصى الحدود. والجنرال الحاقد يريد شراء اللوحة، بل شراء الرمز الأكبر، والفنّان بدوره يرفض إغراء المال، ويتصاعد الحوار إلى درجة يفقد معها الجنرال أعصابه ويأمر بسلب اللوحة عن طريق الحاكم العسكريّ.

الفنّان عصام بدر ليس الوحيد من بين الفنّانين الفلسطينيّين الّذين اقتحم الحاكم العسكريّ معرضه، نحن نقدّمه هنا كمثال لحالة عامّة يعانيها الفنّانون الفلسطينيّون على ترابهم المغتصب.

***

وصل الأمر بالسطات الاستعماريّة الإسرائيليّة إلى سلب الملابس – الرسومات، وكلّ الأشياء الّتي تحمل ألوانًا تتطابق وألوان العلم الفلسطينيّ، يسلبونها ويلاحقون صاحبها بتهمة الصمود والتحدّي، وهما أمران تعتبرهما السلطات الاستعماريّة بمثابة إخلال بالأمن.

يمشّط جنود الجيش الإسرائيليّ المدجّجين بالسلاح الضفّة الغربيّة من شمالها إلى جنوبها عشرات المرّات يوميًّا، وكلّما لفت انتباههم شيء يحمل عدّة ألوان يسلبونه، وإذا صدف أن وُجِدَتْ مثل هذه الأشياء داخل محلّ يجري إغلاقه أيضًا وأخذ صاحبه إلى التحقيق، وويل لمن لا يلتزم أمام الحاكم العسكريّ بأنّ الأمر لن يتكرّر.

"نحن لا نلبس القمصان الملوّنة، ولن، ولن..."، هذا ما يرغب الحاكم العسكريّ في سماعه من المواطنين العرب. قد لجأت سلطات الحكم العسكريّ أكثر من مرّة إلى سلب لوحات عُرِضَت في معارض داخل الأراضي المحتلّة، وكانت الحجّة إمّا أنّ هذه اللوحات تعبّر عن الصمود والتحدّي، أو أنّ هذه الصور ملوّنة بألوان العلم  الفلسطينيّ – الأحمر والأسود والأبيض والأخضر – كما صودِرَتْ كتب عربيّة من المكتبات لمجرّد أنّ غلافها الخارجيّ يحمل ألوانًا قريبة أو مشابهة للعلم. أمّا عن الملابس، فالّذين ارتدوا ملابس ملوّنة بلون العلم الفلسطينيّ نُقِلُوا لمقرّات الحاكم العسكريّ وطُلِبَ منهم خلع هذه الملابس حيث صودِرَت وتُرِكوا عراةً داخل نظارة الحاكم العسكريّ إلى حين إحضار ملابس لهم من منازلهم يرتدونها.

محمّد حمودي، 37 عامًا، مصاب بالشلل في قدميه، رسّام عربيّ معروف، صادرت سلطات الحاكم العسكريّ رسوماته ولا تزال تهدّده بالاعتقال؛ سلطات الحكم تهدّد باعتقال رجل مشلول مقعد على عربة صغيرة.

ونبيل عناني، من سكّان رام الله، لم يُفْلِت هو الآخر من نقمة السلطات العسكريّة الاستعماريّة وقد خضع لمراقبة أجهزة الأمن الإسرائيليّ لمتابعة تحرّكاته. وهذه الحادثة وقعت للمواطن العربيّ عصام بدر، 32 عامًا. فقد رسم حصانًا ثائرًا يقفز على رجليه ويبدو بالصورة وكأنّه خارج من حقل أغلال، وفي أسفل اللوحة كُتِبَت كلمة ’الرفض‘. حين شاهد موشي دايان هذا الرسم أعجِبَ به وزوجته وطلب أن يشتريه لكنّ عصام بدر رفض بيعه لدايان، خاصّة وأنّ دايان هو أحد الّذين خلقوا مأساة الشعب الفلسطينيّ، فما كان من دايان إلّا أن لجأ لبعض المواطنين العرب وطلب منهم التدخّل لدى عصام بدر كي يوافق على بيعه الرسم، وأصرّ بدر على الرفض قائلًا بأنّه لم يرسم من أجل أن يبيع لوحاته لدايان بالذات. بعد أسابيع أرسل دايان إليه عددًا من جنود الجيش الإسرائيليّ الّذين أخبروا بدر أنّ موشي دايان يريد اللوحة مقابل 400 دينار أردنيّ. وأيضًا رفض الفنّان بيع الرسم، وهنا لجأ دايان إلى الحاكم العسكريّ الّذي أقرّ بسلب اللوحة واعتقال صاحبها. حين يجمع الحاكم العسكريّ الفنّانين وصنّاع الألبسة وغيرهم من العرب، يقول لهم بكلّ صراحة: بإمكانكم أن ترسموا... بإمكانكم أن تصنعوا ملابسكم، ولكن لتكن جميعها بلون عاديّ غير مركّب، وحبّذا لو أنّها تكون بلون واحد طبيعيّ، أمّا أن تكثروا الألوان فهذا لا أسمح به قطعيًّا، لا تلوّنوا أبدًا بألوان العلم الفلسطينيّ.

- يوسي هايمن، عن مجلّة «هعولام هزي Ha’olam Ha Zeh».

***

حوار مع الفنّان عصام بدر - «مجلّة البيادر»

شهدت الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة في الفترة الأخيرة نشاطًا تشكيليًّا ملحوظًا، وقد كان الأستاذ عصام بدر أحد المشاركين الرئيسيّين وواحدًا من أوائل المبادرين لتجميع الحركة التشكيليّة الناشئة. وقد أسهمت جهود عصام بدر بالتعاون مع زملائه في إحياء ندوة الرسم والنحت الّتي أخذت عاتقها تطوير وتنشيط الحركة الفنّيّة لتعبّر بصدق عن هموم الإنسان الفلسطينيّ.

وفي ندوة الرسم والنحت كان لنا لقاء مع الأستاذ عصام بدر وتفضّل مشكورًا بالإجابة على أسئلة «البيادر».

 

البيادر: نرجو أن تحدّثنا عن بوادر نشاطاتك الفنّيّة واتّجاهاتك نحو الحركة التشكيليّة؟

عصام بدر: أستطيع القول إنّ بوادر اهتمامي كانت قد ظهرت خلال دراستي الإعداديّة في «مدرسة ابن رشد» في الخليل. وكنت في ذلك الوقت اشتغل في زخرفة الفخّار الخليليّ برسوم وألوان مستوحاة من البيئة لأغراض سياحيّة.

أذكر أنّني لم أوفّق في تلك الفترة بالعثور على مصادر لتدريس الفنّ في مكتبات الخليل والقدس. وفي المرحلة الثانويّة وكنت في «مدرسة الحسين بن عليّ» وجدت التشجيع من الأستاذ عمر التكروري وكنت أرسم في حصص النشاطات الأخرى. في تلك الفترة فكّرت بدراسة الفنّ أكاديميًّا، وقد سافرت ليوغوسلافيا لهذه الغاية فلم أوفّق، فعدت إلى عمّان حيث عملت في التلفزيون الأردنيّ في قسم الديكور، ومن ثمّ ذهبت إلى بغداد والتحقت بـ «كلّيّة الفنون الجميلة» لأربع سنوات.

 

البيادر: نرجو أن تحدّثنا إذن عن مدى تأثّرك بالدراسة الأكاديميّة والفنّ العراقيّ المعاصر؟

عصام بدر: الحقيقة أنّ النشاط في القطر العراقيّ يعتبر من أقوى الحركات التشكيليّة العربيّة، حيث يتوفّر الوعي والنضوج الجماليّ والسياسيّ عند المواطنين، وخاصّة بعد نزوح عدد من الفنّانين البولونيّين أثناء الحرب العالميّة الثانية إلى العراق. وتمتاز كلّيّة الفنون الجميلة بكفاءات فنّيّة نادرة تركت أثرًا عميقًا على مسيرة الفنّ في العراق والوطن العربيّ، وعلى سبيل المثال أذكر الفنّان جواد سليم ونُصْب الثورة المشهور، ثمّ الأستاذ فائق حسن وإسماعيل الشيخلي، وفرج عبّو، والأستاذ سعيد شاكر المتخصّص في الخزف. من هنا فإنّ أكاديميّة الفنون في بغداد تتسم بالعمق وقوّة الإنتاج عند الطلبة.

 

البيادر: ما هي نشاطاتك الفنّيّة، ورأيك في الحركة التشكيليّة المحلّيّة؟

عصام بدر: منذ بداية توجّهاتي الفنّيّة كنت أشعر بالحاجة الملحّة لمشاهدة أعمال فنّيّة وسماع أخبار ومناقشات تدور حول الفنّ. وأذكر أنّني زرت معرض الفنّان إسماعيل شمّوط (1930 -2006) عام 1965 في القدس، في قاعة شركة الكهرباء. وقد ترك إسماعيل شمّوط أثرًا كبيرًا في مسار حياتي الفنّيّة، إذ إنّ أوّل أعمالي «قصّة الخروج ثمّ طريق العودة»، كانت بتأثير معرض إسماعيل شمّوط. ومن هنا، عملت أثناء دراستي الفنّيّة ووقفت مجيبًا عن تساؤلات الجمهور محاولًا بذلك سدّ النقص في المعرفة الفنّيّة، وكان اهتمامي بعد ذلك أن أجعل الحركة التشكيليّة كلًّا متماسكًا ينطلق بزخم نحو الجماهير، لا أن يبقى معروضًا في الصالونات، لدى قلّة تستطيع امتلاك اللوحات.

أمّا ما يتعلّق بالحركة التشيكليّة المحلّيّة، فبتصوّري أنّ الحركة الفنّيّة، رغم المعوّقات الكثيرة، فهي تسير في خطى لا بأس بها كحركة ناشئة، إلّا أنّ لي بعض الملاحظات أودّ تسجيلها، وهي أوّلًا، ظاهرة ألمسها بشكل عامّ، أنّ الفنّان في الضفّة الغربيّة يستغلّ الموضوعات السياسيّة بدون عمق فكريّ يضفي على اللوحة القوّة والزخم. أي أنّ الفنّان، أخذ يتّجه نحو ما يُسَمّى بالموضة، أعني اتّجاه الفنّان نحو تملّق عواطف الناس، دون الفهم الكامل والعمق الفنّيّ الأكاديميّ. ثانيًا، ألاحظ أنّ بعضنا، يقلّد أعمالًا فنّيّة ويمسخها إلى أشكال فيها من التهريج الفنّيّ والكلامي الشيء الكثير. ثالثًا، وفضلًا عن هذا، فإنّ ثمّة تهريج في الألوان أيضًا، ومن هنا نجد أنّ الفنّان وبدلًا من أن يعطي الجماهير عطاءً فنيًّا أصيلًا، فإنّه يضلّلها ويبعدها عن الفنّ الصحيح في سبيل إرضاء نوازع فرديّة ضيّقة. رابعًا، يُلاحَظُ أنّ علاقة الفنّان مع الجمهور سطحيّة بدليل عدم التفاعل الحيّ مع هموم الجماهير واستغلال عواطفها. فمثلًا، ومثل هذه العلاقة لا تنتج فنًّا أصيلًا ولا تبني قواعد لحركة فنّيّة أصيلة، لكنّها تعطي انفعالًا عابرًا يسيء في المستقبل إلى مجموع الحركة الفنّيّة. خامسًا، اتّجاه بعضنا إلى كثرة الإنتاج لأغراض تجاريّة، إنّ قيمة الفنّان ليست في الكمّ ولكن في الكيف والنوع. سادسًا، إنّ ضعف الحركة النقديّة دفع البعض إلى الاعتقاد أنّ كلّ ما ينتجوه لا يأتيه الباطل من بيد يديه ولا من خلفه. وكذلك فإنّ عدم معرفة واطّلاع الجمهور على الأعمال الفنّيّة العالميّة، جعل بعضنا يسرح ويمرح في أعمال الآخرين. سابعًا، أشعر أنّنا جميعًا مقصّرون تجاه الأجيال الناشئة لأنّنا لم نقم حتّى الآن بإعطاء محاضرات أو دروس للهواة أو المهتمّين. إنّ هذا في اعتقادي من الأسس الّتي تبنى عليها الحركة الفنّيّة قواعدها الراسخة.

 

 

* نشرت «مجلّة الأقلام» العراقيّة هذه المادّة الصحفيّة عام 1981، وقد تضمّنت تعليقًا من المجلّة على قصّة سلب موشيه دايان لوحةً فنّيّة للفنّان الفلسطينيّ عصام بدر، إضافة إلى مقالة صحفيّة تروي وقائع القصّة منقولة عن مجلّة «هعولام هزيه» الصهيونيّة، جرت مراجعتها وتحريرها، وحوارًا أجرته «مجلّة البيادر» الفلسطينيّة مع الفنّان عصام بدر.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.